السيرة النبوية
هو سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين ابن
عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيِّ بن حكيم بن مُرّة
بن كعب بن لُؤيِّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة بن
خُزَيْمَة بن مُدْرِكَة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدِّ بن عَدْنان.
هذا هو النسب المتفق على صحته، كما اتفقوا على أن النسب المحمدي الشريف
يتصل بسيدنا إسماعيل بن سيدنا إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ولكن سلسلة
النسب بين عدنان وسيدنا إسماعيل عليه السلام لم يثبت علمها من طريق صحيح.
فالجد الأول للنبي صلى الله عليه وسلم هو عبد المطلب بن هاشم وكان شيخاً معظماً في قريش يحترمونه ويرجعون إليه في مهمات أمورهم.
وأمه صلى الله عليه وسلم هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم ابن
مرة الذي هو الجد الخامس للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه.[
مما سبق تعلم أن أباه وأمه صلى الله عليه وسلم من أصل واحد، وأنهما
يجتمعان في حكيم بن مرة (وكان يسمى كلابا)، وأن عبد مناف بن زهرة الذي هو
الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أمه غير عبد مناف الجد
الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه.
ومن جدودهما فهر الذي هو (قريش)، وهو عاشر أجداد النبي صلى الله عليه
وسلم، وإليه تنسب أمة قريش كلها، وقد تفرعت منه اثنتا عشرة قبيلة سميت
باسمه، منهم بنو عبد مناف الذي هو الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم،
فهو صلى الله عليه وسلم من صميم قريش المشهود لهم بالشرف ورفعة الشأن بين
العرب.
وأجداده من جهة أبيه وأمه كلهم سادة كرام، وكل اجتماع بين أجداده وزوجاتهم
كان شرعياً بحسب الأصول العربية، فلم يكن في نسبه الشريف شيء من سفاح
الجاهلية فهو نسب شريف طاهر من آباء طاهرين وأمهات طاهرات والحمد لله رب
العالمين.
مولده صلى الله عليه وسلم
تزوج عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن
زهرة بن حكيم؛ وعمره ثماني عشرة سنة ، وهي يومئذ من أفضل نساء قريش نسباً
وأكرمهم خلقاً. ولما دخل بها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسافر
والده عبد الله عقب ذلك بتجارة له إلى الشام فأدركته الوفاة بالمدينة
(يثرب) وهو راجع من الشام ، ودفن بها عند أخواله بني عدى بن النجار، وكان
ذلك بعد شهرين من حمل أمه آمنة به صلى الله عليه وسلم.
وقد توفي والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يترك من المال إلا خمساً من الإبل وأمَته (أم أيمن).
ولما تمت مدة الحمل ولدته صلى الله عليه وسلم بمكة المشرفة في اليوم
الثانى عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل، الذي يوافق سنة 571 من ميلاد
المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهو العام الذي أغار فيه ملك
الحبشة على مكة بجيش تتقدمه الفيلة قاصداً هدم الكعبة (البيت الحرام)
فأهلكهم الله تعالى.
كانت ولادته صلى الله عليه وسلم في دار عمه أبي طالب في شِعْب بني هاشم،
أي مساكنهم المجتمعة في بقعة واحدة، وسماه جده عبد المطلب (محمداً) ولم
يكن هذا الاسم شائعاً إذ ذاك عند العرب ولكن الله تعالى ألهمه إياه فوافق
ذلك ما جاء في التوراة من البشارة بالنبي الذي يأتي من بعد عيسى عليه
الصلاة والسلام مسمى بهذا الاسم الشريف، لأنه قد جاء في التوراة ما هو
صريح في البشارة بنبي تنطبق أوصافه تمام الانطباق على سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم: مسمى، أو موصوفا بعبارة ترجمتها هذا الاسم، كما جاءت البشارة
به صلى الله عليه وسلم على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام باسمه أحمد، وقد
سمى بأحمد كما سمى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت قابلته صلى الله عليه وسلم الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف وحاضنته أم
أيمن بركة الحبشية أَمَة أبيه عبد الله، وقد ورد في الحديث أنه صلى الله
عليه وسلم وُلد مختوناً، وورد أيضا أن جده عبد المطلب ختنه يوم السابع من
ولادته الذي سماه فيه..
رضاعه صلى الله عليه وسلم
أرضعته صلى الله عليه وسلم أمه عقب الولادة، ثم أرضعته ثويبة أَمَة عمه
أبي لهب أياماً، ثم جاء إلى مكة نسوة من البادية يطلبن أطفالاً يرضعنهم
ابتغاء المعروف من آباء الرضعاء على حسب عادة أشراف العرب، فإنهم كانوا
يدفعون بأولادهم إلى نساء البادية يرضعنهم هناك حتى يتربوا على النجابة
والشهامة وقوة العزيمة، فاختيرت لإرضاعه صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء
النسوة (حليمة) بنت أبي ذؤيب السعدية؛ من بني سعد بن بكر من قبيلة هوازن
التي كانت منازلهم بالبادية بالقرب من مكة المكرمة، فأخذته معها بعد أن
استشارت زوجها (أبو كبشة) الذي رجا أن يجعل الله لهم فيه بركة، فحقق الله
تعالى رجاءه وبدل عسرهم يسراً، فَدَرَّ ثديها بعد أن كان لبنها لا يكفي
ولدها ، ودَرَّت ناقتهم حتى أشبعتهم جميعاً بعد أن كانت لا تغنيهم ، وبعد
أن وصلوا إلى أرضهم كانت غنمهم تأتيهم شباعاً غزيرة اللبن مع أن أرضهم
كانت مجدبة في تلك السنة، واستمروا في خيروبركة مدة وجوده صلى الله عليه
وسلم بينهم
ولما كمل له سنتان فصلته حليمة من الرضاع، ثم أتت به إلى جده وأمه وكلمتهما في رجوعها به وإبقائه عندها فأذنا لها بذلك.
حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم
بعد عودة حليمة السعدية به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى ديار بني
سعد بأشهر، بعث الله تعالى مَلَكين لشق صدره الشريف وتطهيره، فوجداه صلى
الله عليه وسلم مع أخيه من الرضاع خلف البيوت، فأضجعاه وشقا صدره الشريف
وطهراه من حظ الشيطان، وكان ذلك الشق بدون مدية ولا آلة بل كان بحالة من
خوارق العادة ، ثم أطبقاه، فذهب ذلك الأخ إلى أمه حليمة وأبلغها الخبر،
فخرجت إليه هي وزوجها فوجداه صلى الله عليه وسلم منتقع اللون من آثار
الروع ، فالتزمته حليمة والتزمه زوجها حتى ذهب عنه الروع ، فقص عليهما
القصة كما أخبرهما أخوه. وقد أحدثت هذه الحادثة عند حليمة وزوجها خوفاً
عليه، ومما زادها خوفاً أن جماعة من نصارى الحبش كانوا رأوه معها فطلبوه
منها ليذهبوا به إلى ملكهم، فخشيت عليه من بقائه عندها، فعادت به صلى الله
عليه وسلم إلى أمه وأخبرتها الخبر، وتركته عندها مع ما كانت عليه من الحرص
على بقائه معها.
وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وكفالة جده وعمه له
بعد أن عادت حليمة السعدية به صلى الله عليه وسلم إلى أمه - وكان إذ ذاك
في السنة الرابعة من عمره الشريف - بقى مع أمه وجده عبد المطلب بن هاشم
بمكة في حفظ الله تعالى، ينبته الله نباتاً حسناً ، ثم سافرت به أمه صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة لزيارة أخواله هناك من بني عدى بن
النجار ، فتوفيت وهي راجعة به من المدينة إلى مكة بجهة (الأبواء) بالقرب
من المدينة ودفنت هناك، فقامت به إلى مكة حاضنته أم أيمن وقد بلغ من العمر
يومئذ ست سنين، ولما وصلت إلى مكة كفله جده عبد المطلب بن هاشم، وحن إليه
حناناً زائداً وعطف عليه عطفاً بليغاً، حتى توفي عبد المطلب وعمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين.
وكان جده عبد المطلب يوصي به عمه أبا طالب -الذي هو الأخ الشقيق لأبيه-
فلما مات عبد المطلب كان صلى الله عليه وسلم في كفالة عمه أبي طالب يشب
على محاسن الأخلاق، متباعداً عن صغائر الأمور التي يشتغل بها الصبيان عادة
، وقد بارك الله تعالى لأبي طالب في الرزق مدة وجوده صلى الله عليه وسلم
في كفالته وفي وسط عياله.
سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام
لما أراد أبو طالب أن يسافر إلى الشام في تجارة له رغب رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يرافقه، فأخذه معه وسنه إذ ذاك اثنتا عشرة سنة ، ولما وصلوا
بصرى وهي أول بلاد الشام من جهة بلاد العرب قابلهم بها راهب من رهبان
النصارى اسمه (بحيرا) – كان يقيم في صومعة له هناك – فسألهم عن ظهور نبي
من العرب في هذا الزمن، ثم لما أمعن النظر في النبي صلى الله عليه وسلم
وحادثه عرف أنه النبي العربي الذي بشر به موسى وعيسى عليهما الصلاة
والسلام ، وقال لعمه أنه سيكون لهذا الغلام شأن عظيم، فارجع به واحذر عليه
من اليهود ، فلم يمكث أبو طالب في رحلته هذه طويلاً بل عاد به إلى مكة حين
فرغ من تجارته، وبقى صلى الله عليه وسلم في مكة مثال الكمال، محفوظاً من
معايب أخلاق الجاهلية، شهماً شجاعاً حتى إنه حضر مع أعمامه حرب (الفجار) و
(حلف الفضول)، وسنه إذ ذاك عشرون سنة.
أما (الفجار) فهي حرب كانت بين قبيلة كنانة ومعها حليفتها قريش وبين قبيلة
قيس، وقد ابتدأت هذه الحرب فيما بين مكة والطائف ووصلت إلى الكعبة،
فاستحلت حرمات هذا البيت الذي كان مقدساً عند العرب ولذلك سميت حرب
(الفجار).
وأما (حلف الفضول) كان عقب هذه الحرب، وهو تعاقد بطون قريش على أن ينصروا
كل من يجدونه مظلوماً بمكة سواء كان من أهلها أو من غير أهلها.
رحلته إلى الشام مرة ثانية في تجارة لخديجة بنت خويلد
كان طريق الكسب في قريش هي التجارة، وكانت خديجة بنت خويلد من بني أسد بن
عبد العزى بن قصي سيدة ذات مال، تتاجر في مالها بطريق المضاربة مع من تثق
بهم من الرجال ، فلما سمعت بأمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه حتى
اشتهر بين قومه باسم (الأمين) بعثت إليه، وعرضت عليه أن يسافر بمال لها
إلى الشام وتعطيه من الربح أكثر مما كانت تعطى غيره، فقبل ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسافر مع غلامها ( أى مملوكها) ميسرة فباع واشترى وعاد
بربح عظيم.
وقد شاهد ميسرة في هذه الرحلة كثيراً من بركات النبي صلى الله عليه وسلم
وإكرام الله تعالى له، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الشام نزل في ظل
شجرة قريباً من صومعة راهب هناك، فقال هذا الراهب لميسرة أنه ما نزل تحت
هذه الشجرة قط إلا نبي، وكان ميسرة يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
مظللاً من حر الشمس وهو يسير على بعير بدون أن تكون معه مظلة.
زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة بنت خويلد
لما قدم ميسرة إلى سيدته خديجة الحازمة اللبيبة، وأخبرها بما شاهده من
بركات النبي صلى الله عليه وسلم وإكرام الله تعالى له، بعثت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالت له: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك
وأمانتك وصدق حديثك، وقد خاطبته بابن العم على عادة العرب من تخاطب
الأقرباء من جهة الأبوة بابن العم، حيث يجتمع أصولهما في (قصي) فإنها من
بني أسد بن عبد العزى بن قصي، وكانت خديجة قد ذكرت ما سمعت من غلامها
ميسرة لابن عمها ورقة بن نوفل -من المتتبعين للكتب والأخبار- فكان يقول
لها: يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كان لهذه الأمة نبي
يُنتظر، هذا زمانه.
وكانت خديجة مرغوبا فيها لشرف نسبها ورفعة قدرها بين قومها، فعرض النبي
صلى الله عليه وسلم الأمر على أعمامه فوافقوه على زواجه صلى الله عليه
وسلم، بها وتوجهوا معه إليها، وأتموا عقد الزواج بينهما ، وتولاه عنها
عمها (عمرو بن أسد)، كما تولاه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمه (أبو
طالب) ، وكان صداقها عشرين بِكْرة ، وكان سن السيدة خديجة أربعين سنة وسنه
صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة ، ولم يتزوج عليها النبي صلى الله
عليه وسلم حتى توفيت رضى الله عنها، وكانت متزوجة قبله صلى الله عليه وسلم
برجل اسمه (هند)، ولدت منه ولداً اسمه (هالة)، فكان ربيب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وقد مكث صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بالسيدة خديجة
يشتغل بالتجارة والتنسك، حتى بعثه الله رحمة للعالمين
شهوده صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة
الكعبة هي أول بيت وضع في الأرض للعبادة، وقد بناها سيدنا إبراهيم الخليل
مع ولده سيدنا إسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ثم جُدد
بناؤها من بعده ثلاث مرات، وكان بناؤها من الصخر وارتفاعها فوق القامة.
ويقال أن أول من بناها سيدنا آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام، وقد
وصلوا في نقض أنقاضها إلى أساس سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ويقال
أنهم وجدوا هناك صحافا منقوشا فيها كثير من الحكم تذكرة للمتأخرين، وقد
تحرى أشراف قريش أن تكون نفقة بنائها من طيب أموالهم؛ فكانوا لا يدخلون في
نفقتها مهر بغى ولا مال ربا، ولما ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامها على
قواعد سيدنا إبراهيم عليه السلام أخرجوا منها الحجر، وبنوا عليه جدارا
قصيراً علامة على أنه منها.
وعندما بلغ سن النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اتفق أن نزل
سيل عظيم بمكة أثر في جدران الكعبة فأوهنها -على ما كانت عليه من الضعف
بسبب حريق أصابها من قبل، فاجتمعت قبائل قريش وشرعوا في هدمها وبنائها
بناء مرتفعاً، وكان الأشراف منهم يتسابقون في نقل الحجارة وحملها على
أعناقهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحمل الحجارة وينقلها
الى مكان البناء، مع عمه العباس رضى الله عنه.
بنيت الكعبة حينئذ بارتفاع ثماني عشر ذراعا، بحيث يزيد عن أصله تسعة أذرع،
وقد رفع الباب بحيث لايصعد إليه إلا بدَرَج. و لما تم بناء الكعبةوأرادت
قريش وضع الحجر الأسود في موضعه، اختلف أشرافهم فيمن يضعه، وظلوا مختلفين
أربعة أيام، فأشار عليهم أبو أمية الوليد بن المغيرة - وهو أكبرهم سنا -
بأن يحكِّموا بينهم من يرضون بحكمه، فاتفقوا على أن يكون الحكم لأول قادم
من باب الصفا. فكان أول داخل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتاحوا
جميعا لما يعهدونه من أمانته وحكمته وصدقه وإخلاصه للحق، وقالوا: هذا
الأمين رضيناه، هذا محمد، فلما وصل إليهم وأخبروه الخبر بسط رداءه، وتناول
الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء ثم ارفعوه
جميعا، ففعلوا حتى وصلوا به إلى موضعه؛ فوضعه فيه بيده صلى الله عليه
وسلم، وبذلك انتهت هذه المشكلة التي كادت تؤدى إلى الحرب والقتال فيما
بينهم
سيرته صلى الله عليه وسلم في قومه قبل النبوة قد علمت أن الله تعالى قد
أكرم آل حليمة السعدية التي أرضعته صلى الله عليه وسلم، فبدل عسرهم يسراً
وأشبع غنيماتهم وأدر ضروعها في سنة الجدب والشدة، كما بارك سبحانه وتعالى
في رزق عمه أبي طالب حينما كان في كفالته، مع ضيق ذات يده، وأنه سبحانه
وتعالى كان يسخر له الغمامة تظله وحده من حر الشمس في سفره إلى الشام،
فتسير معه أنى سار دون غيره من أفراد القافلة.
وكان سبحانه وتعالى يلهمه الحق ويرشده الى المكارم والفضائل في أموره
كلها، حتى إنه كان إذا خرج لقضاء الحاجة في صغره بَعُدَ عن الناس حتى لا
يُرى.
وكان سبحانه وتعالى يكرمه بتسليم الأحجار والأشجار عليه، ويُسمعه ذلك فيلتفت عن يمينه وشماله فلا يرى أحداً.
وقد كان علماء اليهود والنصارى - رهبانهم وكهنتهم- يعرفون زمن مجيئه صلى
الله عليه وسلم مما جاء من أوصافه في التوراة وما أخبر به المسيح عيسى بن
مريم عليه الصلاة والسلام فكانوا يسألون عن مولده وظهوره وقد عرفه كثيرون
منهم لما رأوا ذاته الشريفة أو سمعوا بأوصافه وأحواله صلى الله عليه وسلم.
وقد نشأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ممتازاً بكمال الأخلاق، متباعداً
في صغره عن السفاسف التي يشتغل بها أمثاله في السن عادة، حتى بلغ مبلغ
الرجال فكان أرجح الناس عقلاً، وأصحهم رأياً، وأعظمهم مروءة، وأصدقهم
حديثاً، وأكبرهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش، وقد لقبه قومه (بالأمين)،
وكانوا يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم
وقد حفظه الله تعالى منذ نشأته من قبيح أحوال الجاهلية، وبَغَّض إليه
أوثانهم حتى إنه من صغره كان لا يحلف بها ولا يحترمها ولا يحضر لها عيداً
أو احتفالاً، وكان لا يأكل ما ذبح على النُّصُب، و النصب هي حجارة كانوا
ينصبونها ويصبون عليها دم الذبائح ويعبدونها
ولقد كان صلى الله عليه وسلم لين الجانب يحن إلى المسكين، ولا يحقر فقيراً
لفقره، ولايهاب ملكا لملكه، ولم يكن يشرب الخمر مع شيوع ذلك في قومه، ولا
يزنى ولا يسرق ولا يقتل، بل كان ملتزما لمكارم الأخلاق التي أساسها الصدق
والأمانة والوفاء.
وبالجملة حفظه الله تعالى من النقائص والأدناس قبل النبوة كما عصمه منها بعد النبوة.
وكان يلبس العمامة والقميص والسراويل، ويتزر ويرتدى بأكيسة من القطن،
وربما لبس الصوف والكتان، ولبس الخف والنعال وربما مشى بدونها. وركب الخيل
والبغال والإبل والحمير. وكان ينام على الفراش تارة وعلى الحصير تارة وعلى
السرير تارة وعلى الأرض تارة، ويجلس على الأرض، ويخصف نعله، (أي يخرزها
ويصلحها) ويرقع ثوبه، وقد اتخذ من الغنم والرقيق من الإماء والعبيد بقدر
الحاجة. وكان من هديه في الطعام ألا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً.
معيشته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم كان جده هاشم كبير قريش وسيدها،
وكانت قريش أشرف قبائل العرب، وكانت إقامتهم بمكة وضواحيها، وكانت معيشتهم
من التجارة في الثياب والبز (متاع البيت من جنس الثياب) وما يحتاجه العرب،
وكان لهم رحلتان تجاريتان إلى الشام إحداهما في الصيف والأخرى في الشتاء،
وكان أكثر ما يقتنون من النَّعم الإبل والغنم للانتفاع بظهورها وألبانها
وأصوافها وأوبارها. فلما بلغ سناًّ يمكنه فيه أن يعمل عملا كان ينفق على
نفسه من عمل يده، وقد كانت فاتحة عمله رعاية الغنم، كما هي سنة الله تعالى
في أنبيائه وأصفيائه؛ لتدريبهم على رعاية الخلق بالرفق الذي تستدعيه هذه
الرعاية، فكان ينفق من أجرة رعايته، ثم كان يتجر فيما كانت تتجر فيه قريش
وينفق من كسب تجارته. وفي كل ذلك كان يعمل على قدر الحاجة، لا مستكثراً من
الدنيا ولا تاركا لها تركا كلياًّ، ليهيئه الله تعالى لما أراده سبحانه
منه من التفرغ للدعوة إلى دينه القويم.
تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
كان من العرب قبل الإسلام من ينتمي إلى دين اليهودية، ومنهم من يدين
بالنصرانية- على ما فيهما من تغيير وتحريف، والباقون عبدة أصنام وأوثان،
وكان على ذلك عامة قريش إلا نفرا قليلا منهم كانوا يعيبون على قومهم عبادة
هذه التماثيل.
وقد فُطر سيدنا محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه وسلامه- على طهارة
القلب وزكاء النفس. فطره الله تعالى على ذلك ليكون على تمام الصلاحية
لتلقى شريعته المطهرة وإيصالها إلى الخلق على أتم وجه وأكمله.
فلذلك كانت نفسه الكريمة مجبولة على ما هو الحق، لا تعرف غيره، ولا تقبل
سواه، فكان يأنف عن الباطل بطبعه ويألف الحق بسجيته، فلم يحكم عليه شيء من
عادات قومه: لا في تحسين باطل ممقوت، ولا في تقبيح حق مقبول.
ولقد كانت تلك فطرة أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي فُطر عليها قبل
نبوته؛ كما كان ذلك شأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: يفطرون على
الإقبال على الله تعالى، وتنصرف هممهم وأنفسهم الزكية قبل نبوتهم عما يكون
عليه أقوامهم من باطل العقائد وفاسد العادات والتعبدات.
نشأ صلى الله عليه وسلم مقبلا على الله تعالى بقلبه، خالصاً لله تعالى،
حنيفا لم يحم الشرك حول قلبه الكريم، فكان بأصل فطرته مبغضاً لهذه
الأوثان، نافراً من هذه المعبودات الباطلة، فلم يكن يحضر لها عيدا ولا
يتقرب إليها ولايحفل بها، وإنما كان يعبد خالق الكون وحده، مقبلا عليه
سبحانه بما هو مظهر العبودية والإخلاص من تفكير وتمجيد.
وكان يطوف بالكعبة ويحج كما كان الناس يحجون اتباعاً لملة سيدنا إبراهيم
عليه الصلاة والسلام. ولم يثبت من طريق صحيح التزامه التعبد على شريعة أحد
من الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم أجمعين.
والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يختلى في غار حراء من كل سنة
شهر(وكان يوافق ذلك شهر رمضان)، يعبد الله تعالى بالتفكر، ويطعم المساكين
مما كان يتزود به في مدة خلوته (وروى أنه كان يتزود الكعك والزيت، وكان
كلما فرغ زاده رجع الى أهله فتزود وعاد)، وكان إذا انتهي من خلوته ينصرف
إلى الكعبة فيطوف بها سبعاً أو ماشاء الله من ذلك قبل أن يرجع إلى بيته.
ويسمى حراء: جبل النور، وهو على يسار السالك إلى عرفة، وبه ذلك الغار الذي
كان يتعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ضيق المدخل، ومساحته من
الداخل تقرب من ثلاثة أمتار، وبه نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم لأول
مرة كما سيجيء، ويقال أن جده عبد المطلب كان يتعبد في حراء، ثم تبعه في
ذلك من كان يتعبد منهم كورقة بن نوفل وأبي أمية بن العزى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب العزلة والخلوة من زمن طفولته إلى أن بعثه الله تعالى رحمة للعالمين.
وقبيل مبعثه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، أي واضحة وصريحة كوضوح
ضوء الصباح وإنارته، أى أنها تتحقق في اليقظة مثل ما يراها في المنام،
فكان ذلك مقدمة لنبوته صلى الله عليه وسلم.
بدء الوحي
لما كمل سنه صلى الله عليه وسلم أربعين سنة-وهو سن الكمال، أكرمه الله تعالى بالنبوة والرسالة رحمة للعالمين.
فبينما هو صلى الله عليه وسلم في خلوته بغار حراء، وكان ذلك في شهر رمضان
على أصح الروايات، إذ جاءه جبريل الأمين عليه السلام بأمر الله تعالى،
ليبلغه رسالة ربه عز وجل، ) وقد تمثل جبريل عليه السلام في هذه المرة
بصورة رجل. فقال له: اقرأ، فقال له عليه الصلاة والسلام: ما أنا بقارئ
(لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لم يتعلم القراءة)، فغطه جبريل عليه
السلام في فراشه غطا شديدا (أى ضمه وعصره بشدة)، ثم أرسله فقال له: اقرأ،
فقال: ما أنا بقارئ، فغطه ثانية ثم أرسله وقال له: اقرأ، فقال: ما أنا
بقارئ، ثم غطه الثالثة وأرسله فقال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ، خَلَقَ اْلإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ اْلأَكْرَمِ،
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ اْلإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف عنه جبريل عليه السلام وهو
يقول: يامحمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فانصرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أهله يرجف فؤاده مما أدركه من الروع لشدة مقابلة الملك فجأة وشدة
الغطّ التي اقتضاها الحال.
ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله، ودخل على زوجه خديجة رضى الله
عنها قال: زَمِّلوني زَمِّلوني (أي اطرحوا عليَّ الغطاء ولفوني به - ليذهب
عنه الروع)، فلما ذهب عنه الروع أخبر خديجة رضي الله عنها بما كان، فقالت
له: أبشر يا ابن عم واثبت، فإنى لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ثم ذهبت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل،
وكان شيخا كبيرا يعرف الإِنجيل وأخبار الرسل، فأخبره رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما رآه، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى،
أي أن هذا الملك الذي جاءك هو الناموس؛ أى صاحب سر الوحي الذي نزله الله
تعالى على نبيه موسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يعرف من الكتب القديمة
وأخبارها أن جبريل هو رسول الله إلى أنبيائه.
ثم تمنى ورقة أن لو كان شابا يقدر على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم عند
ظهوره بأمر الرسالة ومعاداة قومه له؛ لأنه يعرف من أخبار الرسل أن قومهم
يعادونهم في مبدإ أمرهم، ثم توفي ورقة بعد ذلك بزمن قريب.
فترة الوحي وعودته
بعد هذه الحادثة فتر الوحي وانقطع مدة لا تقل عن أربعين يوما، اشتدّ فيها
شوق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوحي وشقّ عليه تأخره عنه، وخاف من
انقطاع هذه النعمة الكبرى: نعمة رسالته عليه الصلاة والسلام بين الله عز
وجل وبين عباده ليهديهم إلى صراطه المستقيم.
فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشى في أفنية مكة إذ سمع صوتا من
السماء، فرفع بصره فإذا الملك الذي جاءه بغار حراء وهو جبريل عليه السلام،
فعاد إليه الرعب الذي لحقه في بدء الوحي فرجع إلى أهله وقال: دَثِّرونى
دَثِّرونى (التدثير بمعنى: التزميل السابق بيانه)
فأوحى الله تعالى إليه:
يـَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرْ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلاَتَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرْ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.
فأنذر: حذر الناس من عذاب الله إذا لم يفردوه بالعبادة. فكبر: أي عظِّمْ
ربك وخُصَّه بالتعظيم والإجلال. فطهر: أي حافظ على الطهارة والنظافة من
الأقذار والأنجاس. والرجز فاهجر: أي اترك المآثم والذنوب. ولا تمنن
تستكثر: أي لا تتبع عطاياك وهباتك بالطمع في أخذ الزيادة ممن تعطيه. ولربك
فاصبر: أي اصبر على ما يلحقك من الأذى في سبيل الدعوة إلى الإسلام ابتغاء
وجه ربك.
فكان ذلك مبدأ الأمر له صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام وبعد ذلك تتابع الوحي ولم ينقطع.
كيفية الوحي
للوحي طرق متنوعة وقد عرفت أن من مبادئه الرؤيا الصادقة، فرؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي من قبيل الوحي.[
ومن طرق الوحي أن يأتي الملك إلى النبي متمثلا بصورة رجل، فيخاطب النبي
حتى يأخذ عنه ما يقوله له ويوحي به إليه، وفي هذه الحالة لا مانع من أن
يراه الناس أيضا، كما حصل في كثير من أحوال الوحي لنبينا عليه الصلاة
والسلام.
ومن طرق الوحي أيضاً أن يأتي الملك في صورته الأصلية التي خلقه الله تعالى
عليها، ويراه النبي كذلك فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، ولم يحصل هذا
لنبينا عليه الصلاة والسلام إلا قليلا.
ومن طرق الوحي أيضاً أن يلقى الملك في روع (أي ذهن) النبي وقلبه ما يوحي
به الله إليه، من غير أن يرى له صورة، وقد حصلت هذه الكيفية أيضاً لنبينا
صلى الله عليه وسلم.
وأحيانا كان يأتي الملك مخاطباً للنبي بصوت وكلام مثل صلصلة الجرس (أي
صوته)، وهذه الحالة من أشد أحوال الوحي على النبي، فقد كان نبينا صلى الله
عليه وسلم عندما يأتيه الوحي بهذه الكيفية يعرق حتى يسيل العرق من جبينه
في اليوم الشديد البرد، وإذا أتاه وهو راكب تبرك به ناقته.
وقد يكون الوحي بكلام الله تعالى للنبي بدون واسطة الملك، بل من وراء حجاب، كما حصل ليلة الإسراء لنبينا صلى الله عليه وسلم.
الدعوة إلى الإسلام سرا
على إثر عودة الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترته، قام عليه
الصلاة والسلام بأمر الدعوة إلى ما أمره الله تعالى به من إرشاد الثقلين:
الإنس والجن جميعا إلى توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة دون سواه من
الأصنام والمخلوقات، وأرشد الله تعالى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
إلى أن يبدأ بالدعوة سراَّ؛ فكان يدعو إلى الإسلام من يطمئن إليه ويثق به
من أهله وعشيرته الأقربين ومن يليهم من قومه، واستمر على ذلك ثلاث سنين
مثابراً على الدعوة إلى الله تعالى خفية، حتى آمن به أفراد قلائل كانوا
يقيمون صلاتهم ويؤدون ما أمروا به من شعائر الدين، مستخفين عمن سواهم لا
يظهرون بذلك في مجامع قريش؛ بل كان الواحد منهم يختفي بعبادته عن أهله
وولده.
ولما بلغ عددهم نحو الثلاثين، وكان من اللازم اجتماعهم بالنبي صلى الله
عليه وسلم لإرشادهم وتعليمهم، اختار لهم عليه الصلاة والسلام داراً فسيحة
لأحدهم، وهي دار الأرقم بن الأرقم، فكانوا يجتمعون فيها، واستمروا على ذلك
يزيد عددهم قليلا قليلا حتى أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم
بالجهر بالدعوة.
الباعث على الإسرار بالدعوة
في أول ما نزل الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- في أواخر شهر
رمضان من السنة المتممة للأربعين من عمره الشريف بغار حراء الذي كان يتعبد
فيه- لم يؤمر آنذاك بتبليغ الرسالة للناس، بل كان الأمر في ذلك قاصرا على
إبلاغه رسالة ربه إليه، وتمجيده جلّ وعلا بما جاء في سورة (اقرأ باسم
ربك)، وبعد أن فتر الوحي مدة عاد بأمر الله تعالى له بأن يقوم بتبليغ
رسالة ربه.
ولما كان أهل مكة الذين بُعِثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما
جفاة متخلقين بأخلاق تغلب عليها العزة والأنفة، وفيهم سدنة الكعبة، أي
خدمها وهم القابضون على مفاتيحها، والقوَّام على الأوثان والأصنام، التي
كانت مقدسة عند سائر العرب: يعبدونها ويتقربون إليها بالذبائح والهدايا،
ولا يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ينقادون إليه
بسهولة، كان من حكمة الله تعالى تلقاء ذلك أن تكون الدعوة إلى دين الإسلام
في مبدأ أمرها سرية؛ لئلا يفاجئوا بما يهيجهم وينفرون منه ويكون سبباً
لشنّ الغارات والحروب وإهراق الدماء.
والداعي صلوات الله عليه وسلامه لم يكن له إذ ذاك ناصر ولا معين من خَلْق
الله. ومن سنة الله تعالى في خلقه ربط الأسباب بالمسببات، فلم يأمر الله
تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة من قبل أن يهيئ له أسباب
النصر والفوز على من يقاومه في ذلك، خصوصاً أن قومه الذين بُعث فيها بينهم
كانوا أشد الناس تمسكا بمعبوداتهم وحرصاً على ما كان عليه آباؤهم.
ومن المعلوم أن من الناس من هو عظيم في قومه رفيع الدرجة فيما بينهم،
ومنهم من هو دون ذلك، فالعظماء من الناس تمنعهم أنفتهم من إجابة الداعي
لهم إلى مفارقة ما عليه جماعتهم، ونبذ ما بينهم من الروابط القومية
والعادات المتأصلة، إذ كل فرد منهم يرى أن انفراده بالرضوخ للغير ينقصه في
نظر قومه. فإذا فوجئ هؤلاء الأعاظم بإعلان الدعوة إلى غير ما كانوا عليه؛
ظهروا بمظهر المنكر المعاند وقاوموا الدعوة بجملتهم. وغير الأعاظم هم تبع
العظماء والرؤساء؛ فإذا دعوا إلى مخالفة ما عليه أولئك العظماء جهارا لم
يجسروا على إجابة الداعى متى لم يسبقهم إلى ذلك إفراد من العظماء
فإعلان الدعوة يحتاج إلى مقدمة يستأنس بها الفريقان، وما ذلك إلا باجتذاب
أفراد من هؤلاء وهؤلاء خفية؛ حتى إذا تكونت منهم جماعة وأعلنت بهم الدعوة؛
سهل على غيرهم أن ينبذوا تقاليد قومهم، ويتبعوا ما يدعوهم إليه الداعي مما
تنشرح له صدورهم ولا تأباه فطرهم.
أول من أسلم
كان أول من سطع عليه نور الإسلام من مبدإ الدعوة إليه خديجة بنت خويلد زوج
النبي صلى الله عليه وسلم، وأسبقية إسلام السيدة خديجة على الجميع تكاد
تكون بالاتفاق، والمشهور أن سيدنا أبا بكر الصديق أسبق الرجال إسلاما، وأن
على بن أبي طالب أول الصبيان إسلاما، وأن زيد بن حارثة أول الموالى إسلاما.
ثم أسلم ابن عمه على بن أبي طالب وعمره إذ ذاك عشر سنين؛ وكان مقيما عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حضرت الصلاة خرج به النبي صلى
الله عليه وسلم إلى شعاب مكة مختفيين فيصليان ويعودان كذلك، وقد اطلع
عليهمـا أبو طالب وهما يصليان مرة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا ابن أخى، ما هذا الدين الذي أراك تدين به. قال: أىْ عم، هذا دين الله
ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم؛ بعثنى الله به رسولا إلى
العباد، وأنت ياعم أحق من بذلت له النصيحة ودَعَوْته إلى الهدى، وأحق من
أجابني وأعانني عليه. فقال أبو طالب: يا ابن أخي، إنى لا أستطيع أن افارق
دين آبائي. ولكنه مع ذلك أقر ولده عليًّا على اتباع هذا الدين ووعد النبي
صلى الله عليه وسلم بأن ينصره ويدفع عنه السوء
وقد أسلم بعد ذلك زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تبناه
بعد أن أعتقه وزوجه أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم، وقد كانت من
السابقين إلى الإسلام.
وأبو بكر الصديق رضى الله عنه وكان صديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل
النبوة يعرف صدقه، فعندما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق، وقال: بأبي
أنت وأمى أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له
كبوة غير أبي بكر. وكان رضى الله عنه عظيما في قومه يثقون برأيه، فدعا إلى
الإسلام من توسم فيهم الإجابة، فأجابه عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف،
وسعد ابن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأتى بهم إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح،
وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد العدوى، وأبو سلمة
المخزومى، وخالد ابن سعيد بن العاص، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبيد
الله، والأرقم بن الأرقم. وكل هؤلاء من بطون قريش.
ومن غيرهم صهيب الرومي، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفارى، وعبد الله بن مسعود وغيرهم.
وقد استمرت هذه الدعوة السرية ثلاث سنين، أسلم فيها جماعة لهم شأن في قريش
وتبعهم غيرهم، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس، فجاء وقت الجهر
بالدعوة.
مبدأ الجهر بالدعوة
بعد أن مضى على الإسرار بالدعوة ثلاث سنين كثر دخول الناس في دين الإسلام
من أشراف القوم ومواليهم: رجالهم ونسائهم، وفشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به
الناس، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة وأنزل
عليه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فبادر
بامتثال أمر ربه؛ وأعلن لقومه الدعوة إلى دين الله تعالى؛ وصعد على الصفا
ونادى بطون قريش.
فلما اجتمعوا قال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير
عليكم أكنتم مصدقيّ. قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا، فقال: فإني نذير لكم
بين يدى عذاب شديد. فقام أبو لهب من بينهم وقال: تبا لك ألهذا جمعتنا،
فأنزل الله تعالى في شأنه: (تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا
أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*
وَامْرَأَتُهُ حَمَّاَلةَ الْحَطَبِ* في جِيدِها حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)،
وقد كانت امرأة أبي لهب تمشى بالنميمة في نوادي النساء وتتقول الأكاذيب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشعل بذلك نار الفتنة، ثم أنزل الله
تعالى عليه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ)، فجمع من بني عبد
مناف نحو الأربعين وقال لهم: ما أعلم إنسانا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؛
قد جئتكم بخيرى الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم إليه، والله لو
كَذَبْتُ الناسَ جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله
الذي لا إله إلا هو إنى لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة. والله
لتموتن كما تنامون؛ ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون
بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءاً. إنها لجنة أبدا أو لنار أبدا. فتكلم القوم
كلاما لينا، وقام أبو لهب وقال: شدَّ ما سحركم صاحبكم، خذوا على يديه قبل
أن تجتمع عليه العرب. فمانعه في ذلك أبو طالب وتفرق الجمع.
تذمر قريش من تسفيههم وعيب آلهتهم
لما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلان الدعوة إلى الله وتوحيده
لم يجد من قومه في مبدإ الأمر مقاومة ولا أذى، غير أنهم كانوا ينكرون عليه
فيما بينهم فيقولون إذا مر عليهم: "هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء، هذا
غلام عبد المطلب يكلم من السماء". ولا يزيدون على ذلك، وأبو كبشة كنية
لزوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن المرضعة
بمنزلة الأم كذلك صاحب اللبن بمنزلة الأب. وكانوا يريدون بذلك تنقيص النبي
صلى الله عليه وسلم عنادا واستكباراً.
ولكن لما استتبع إعلان الدعوة عيب معبوداتهم الباطلة، وتسفيه عقول من
يعبدونها، نفروا منه وأظهروا له العداوة غيرة على تلك الآلهة التي
يعبدونها كما كان يعبدها آباؤهم، فذهب جماعة منهم إلى عمه أبي طالب وطلبوا
أن يمنعه عن عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه عقولهم أو يتنازل عن حمايته،
فردهم أبو طالب رداً جميلا.
واستمر رسول الله عليه وسلم يصدع بأمر الله تعالى، وينشر دعوته، ويحذر
الناس من عبادة الأوثان، ولما لم يطيقوا الصبر على هذا الحال عادوا إلى
أبي طالب وقالوا له: إنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم ينته عنا،
وإنا لا نصبر على هذا الحال من تسفيه عقولنا وعيب آلهتنا وتضليل آبائنا،
فإما أن تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فعظم الأمر
على أبي طالب، ولم ترق لديه عداوة قومه ولا خذلان ابن أخيه، وكلم رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله
ياعم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ما
فعلت حتى يظهره الله أو أهلك دونه. فقال أبو طالب: اذهب فقل ما أحببت،
فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
ثم رأى أبو طالب أن يجمع بني هاشم وبني المطلب ليكونوا معه على حماية ابن
أخيه؛ فأجابوه لذلك إلا أبا لهب فإنه فارقهم وانضم إلى بقية كفار قريش
ولما رأت قريش تصميم أبي طالب على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
واتفاق بني هاشم وبني المطلب معه في ذلك؛ وكان وقت الحج قد قرب وخافوا من
تأثير دعوته في أنفس العرب الوافدين لزيارة الكعبة فتزداد قوته وتنتشر
دعوته؛ اجتمعوا وتداولوا فيما يصنعون في مقاومة ذلك، فقال قائل منهم: نقول
كاهن، فقيل: ما هو بكاهن وما هو بحالة الكهان، فقيل: نقول مجنون، فقيل: ما
هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما حالته كحالة المجانين، فقيل:
نقول هو شاعر، فقيل: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر بأنواعه فما هو بالشعر،
فقيل: نقول ساحر، فقيل: لقد رأينا السحرة فما حالته كحالتهم
ثم اتفقوا على أن يذيعوا بين الوافدين إلى مكة من العرب أنه ساحر جاء بقول
هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه؛ وبين المرء وأخيه؛ وبين المرء وزوجه؛
وبين المرء وعشيرته، وصاروا يجلسون بالطرق حين جاء موسم الحج، فلا يمر بهم
أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره.
ولقد كان ذلك سبباً في شيوع دعوته صلى الله عليه وسلم وذكر اسمه في بلاد العرب كلها.
الغزوات – أسبابها ومشروعيتها[
بعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان بها اليهود من
بني قينقاع وقريظة والنضير، أقرهم عليه الصلاة والسلام على دينهم
وأموالهم، واشترط لهم وعليهم شروطاً، وكانوا مع ذلك يظهرون العداوة
والبغضاء للمسلمين، ويساعدهم جماعة من عرب المدينة كانوا يظهرون الإسلام
وهم في الباطن كفار؛ وكانوا يعرفون بالمنافقين، يرأسهم عبد